خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 27 من شعبان 1445هـ الموافق 8 / 3 / 2024م
رَمَضَانُ شَهْرُ الْعِبَادَةِ وَالْقُرْآنِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي اخْتَارَ لِلْخَيْرَاتِ مَوَاسِمَ وَأَوْقَاتًا، وَتَوَلَّى عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ بِالْإِنْعَامِ وَالْإِكْرَامِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ رَمَضَانَ لِفَرْضِ الصِّيَامِ وَالتَّنَافُسِ فِي الْخَيْرَاتِ زَمَانًا وَمِيقَاتًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، عَبَدَ رَبَّهُ رَغْبَةً وَرَهْبَةً ؛ وَسَعَى إِلَيْهِ إِقْبَالًا وَإِخْبَاتًا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى الطَّاعَاتِ أَشَدَّ اسْتِقَامَةً وَإِثْبَاتًا.
أَمَّا بَعْدُ:
فَأُوصِيكُمْ -عِبَادَ اللهِ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى، ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا( [الأحزاب: 70- 71].
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْمُسْلِمُونَ:
سَيُظِلُّنَا شَهْرٌ جَلِيلٌ مُبَارَكٌ، وَمَوْسِمٌ لِلطَّاعَاتِ تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْنَا الْمَوْلَى تَعَالَى وَتَبَارَكَ، أَعْمَالُهُ مُتَنَوِّعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَفَضَائِلُهُ مُتَجَدِّدَةٌ وَفِيرَةٌ، صِيَامُهُ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَقِيَامُهُ مَزِيدُ فَضْلٍ مِنَ اللَّهِ وَإِنْعَامٍ، فِيهِ تُغْلَقُ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُفْتَحُ أَبْوَابُ دَارِ النَّعِيمِ، وَتُسَارِعُ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى اغْتِنَامِهِ، وَتَهْفُو نُفُوسُ الْمُتَّقِينَ إِلَى صِيَامِهِ وَقِيَامِهِ، وَهُوَ مَوْسِمٌ لِلطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، وَمَيْدَانٌ فَسِيحٌ لِلتَّنَافُسِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَلَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحُثُّ عَلَى صِيَامِهِ وَقِيَامِهِ، وَاغْتِنَامِ سَاعَاتِهِ وَأَيَّامِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ: «قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ شَاكِرٍ]. فَلْنَسْتَقْبِلْهُ مُسْتَبْشِرِينَ تَائِبِينَ، وَلْنَعْمَلْ فِيهِ عَمَلَ الْمُخْلِصِينَ الصَّادِقِينَ.
مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ:
إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ: أَنْ يَمُدَّ فِي عُمُرِهِ وَيُبَلِّغَهُ شَهْرَ رَمَضَانَ؛ لِيَبْلُغَ مَوَاسِمَ الرَّحْمَةِ وَيُدْرِكَ مَوَاطِنَ الْغُفْرَانِ، وَهَذِهِ مِنَّةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ جَزِيلَةٌ، وَنِعْمَةٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَلِيلَةٌ، فَيَا لَهَا مِنْ فُرْصَةٍ لِكُلِّ مُسْلِمٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ شَهْرَ الصِّيَامِ، وَوَفَّقَهُ فِيهِ لِمَا يَرْفَعُ دَرَجَاتِهِ وَيَحُطُّ عَنْهُ الْأَوْزَارَ وَالْآثَامَ؛ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ r الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا رَقِيَ عَتَبَةً قَالَ: آمِينَ. ثُمَّ رَقِيَ عَتَبَةً أُخْرَى فقَالَ: آمِينَ. ثُمَّ رَقِيَ عَتَبَةً ثَالِثَةً فقَالَ: آمِينَ. ثُمَّ قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ فقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ. قُلْتُ: آمِينَ. قَالَ: وَمَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ. قُلْتُ: آمِينَ. فقَالَ: وَمَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ. قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ» [رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
عِبَادَ اللهِ:
لَقَدِ اجْتَمَعَتْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ جُلُّ الْعِبَادَاتِ، وَتَكَاثَرَتْ فِيهِ أَنْوَاعُ الطَّاعَاتِ وَالنَّوَافِلِ وَالْقُرُبَاتِ، مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ، وَبَذْلٍ وَعُمْرَةٍ وَصِلَةٍ لِلْأَرْحَامِ، وَتَنَوَّعَتْ فِيهِ وُجُوهُ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ، وَتَوَاصَلَتْ فِيهِ أَسْبَابُ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ ؛ مَا حَفِظَ الصَّائِمُ جَوَارِحَهُ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَتَجَافَى بِنَفْسِهِ عَنِ الْكَبَائِرِ وَالْمُنْكَرَاتِ، فَمَنْ تَمَّ لَهُ ذَلِكَ : فَازَ بِالرِّضَا، وَنَجَا مِنَ الْمَهَالِكِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]. فَمَا عَلَى الْعِبَادِ إِلَّا أَنْ يُشَمِّرُوا، وَمَا عَلَى الْمُخْبِتِينَ إِلَّا أَنْ يَسْتَمِرُّوا؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [أَيْ: عَمِلَ صِنْفَيْنِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ] نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ:«نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].
وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَقَامَهُ؛ يَبْتَغِي الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ؛ مُصَدِّقًا بِوَعْدِ مَوْلَاهُ يَوْمَ الْحِسَابِ؛ غَيْرَ مُسْتَثْقِلٍ لِصِيَامِهِ، وَلَا مُسْتَطِيلٍ لِأَيَّامِهِ: غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا أَسْلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِ وَآثَامِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» و «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» [رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]. وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا أَسْلَفَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ اَلَّتِي فَضْلُ الْعِبَادَةِ فِيهَا يَزِيدُ عَلَى عِبَادَةِ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ؛ قَال تَعَالَى: ]إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ[ [القدر:1-5]، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا: غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]. وَلَقَدْ كَانَ السَّلَفُ – رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ – يَقُومُونَ رَمَضَانَ خَيْرَ قِيَامٍ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَتَوَكَّؤُونَ عَلَى الْعِصِيِّ مِنْ شِدَّةِ الْقِيَامِ؛ ]كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[ [الذاريات:17-18] وَقَالَ تَعَالَى: ]تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ [السجدة:16-17].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
وَغَنَائِمُ الشَّهْرِ كَثِيرَةٌ، وَنَفَحَاتُ اللَّهِ فِيهِ جِدُّ كَبِيرَةٍ، فَمَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا نَالَ مِثْلَ أَجْرِهِ، وَمَنِ اعْتَمَرَ فِيهِ فَكَأَنَّمَا حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمُرِهِ؛ فَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ]، وَعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
وَمِنْ غَنَائِمِ رَمَضَانَ الْكَثِيرَةِ : اعْتِكَافُ عَشْرِهِ الْأَخِيرَةِ؛ إِذْ هَذَا مِنْ هَدْيِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، وَمِنْ قُرُبَاتِ سَيِّدِ الْبَشَرِيَّةِ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]، بَلْ كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَزْمَانِ؛ إِذْ كَانَ يَشُدُّ فِيهَا مِئْزَرَهُ، وَيُحْيِي لَيْلَهُ، وَيُوقِظُ أَهْلَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
وَفَّقَنِيَ اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ لِمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَهَدَانَا جَمِيعًا لِإِحْسَانِ الْعِبَادَةِ سُنَّةً وَفَرْضًا، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ جَلَّ فِي عُلَاهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَمُصْطَفَاهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ نَلْقَاهُ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَتِهِ بِمَا رَزَقَكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ كَمَا أَمَرَكُمْ؛ يَزِدْكُمْ مِنْ فَضْلِهِ كَمَا وَعَدَكُمْ.
عِبَادَ اللهِ:
وَحَسْبُ الصَّوْمِ وَالْقُرْآنِ فَضْلًا وَمَنْقَبَةً، وَدَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَرْتَبَةً: أَنَّهُمَا يَكُونَانِ شَفِيعَيْنِ لِصَاحِبِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُبَوِّئَانِهِ مَنَازِلَ رَفِيعَةً فِي دَارِ الْكَرَامَةِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ» قَالَ: «فَيُشَفَّعَانِ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَحَّهُ أَحْمَدُ شَاكِرٍ].
أَلَا وَإِنَّ مِنْ نَفَحَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي شَهْرِ رَمَضَانَ: أَنْ يُكْثِرَ الْمُسْلِمُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِتَدَبُّرٍ وَتَفَكُّرٍ وَإِمْعَانٍ، فَهُوَ شَهْرُ الرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ وَمَأْدُبَةِ الْقُرْآنِ، فَفِي قِرَاءَتِهِ الْعِلْمُ وَالْهُدَى وَالنُّورُ، وَالْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ وَعِظَمُ الْأُجُورِ؛ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَبْشِرُوا وَبَشِّرُوا، أَلَيْسَ تَشْهَدُونَ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟» قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ طَرَفُهُ بِيَدِ اللَّهِ وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ، فَتَمَسَّكُوا بِهِ فَإِنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا وَلَنْ تَهْلِكُوا بَعْدَهُ أَبَدًا» [رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَحَّهُ الْأَلْبَانِيُّ].
وَمِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ : الْجُودُ وَالْإِنْفَاقُ فِي شَهْرِ الصِّيَامِ؛ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]. وَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ: أَنْ يُكْثِرَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَرَاضِيهِ، وَمِنْ دُعَائِهِ فِي أَيَّامِ رَمَضَانَ وَلَيَالِيهِ؛ فَدَعْوَةُ الصَّائِمِ لَا تُرَدُّ، وَبَابُ الرَّجَاءِ دُونَهُ لَا يُوصَدُ، وَأَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنَ الْخَيْرِ وَوُجُوهِهِ، وَأَنْ يَبْتَعِدَ عَنِ الشَّرِّ وَصُنُوفِهِ، وَيَحْفَظَ جَوَارِحَهُ عَنِ الْخَطَايَا وَالْآثَامِ، وَيُحَافِظَ عَلَى مَكَاسِبِ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ.
أَلَا فَصُومُوا أَيَّامَهُ صَابِرِينَ، وَقُومُوا لَيَالِيَهُ مُحْتَسِبِينَ؛ تَنَالُوا الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ مِنَ الْكَرِيمِ الْوَهَّابِ، وَتَفُوزُوا بِرِضَاهُ يَوْمَ الْحِسَابِ.
اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ، وَغَضِّ الْبَصَرِ وَالْكَفِّ عَنْ سَائِرِ الْآثَامِ، وَاجْعَلْنَا فِي هَذَا الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الْمَرْحُومِينَ، وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الْأَشْقِيَاءِ الْمَحْرُومِينَ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْـمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْـمُشْرِكِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ؛ الْمُوَحِّدِينَ وَالْمُوَحِّدَاتِ؛ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ، إِنَّكَ قَرِيبٌ سَمِيعٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ. اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَ الْبِلَادِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَانْفَعْ بِهِ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً، دَارَ عَدْلٍ وَإِيمَانٍ وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة